سورة الحجر - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23)}
وفي ظاهر الأمر كان من المُمْكِن أن يقول الحق: (إنّا نُميت ونُحيي)؛ لأنه سبحانه يخاطبنا ونحن أحياء، ولكن الحق سبحانه أراد بهذا القول أن يلفتنا أن ننظر إلى الموت الأول، وهو العدم المَحْض الذي أنشأنا منه، وهو سبحانه القائل: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
والكلام في تفصيل الموت يجب أن نُفرّق فيه بين العدم المَحْض والعدم بعد وجود؛ فالعدم المَحْض هو ما كان قبل أن نُخلَق؛ ثم أوجدنا الله لنكون أحياء؛ ثم يميتنا من بعد ذلك، ثم يبعثنا من بعد ذلك للحساب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يكون الكلام عن الموت الذي يحدث بعد أن يهبَنا اللهُ الحياةُ، ثم نقضي ما كتبه لنا من أجَل.
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: {... وَنَحْنُ الوارثون} [الحجر: 23].
وهذا القول يعني أن هناك تركة كبيرة؛ وهي هذا الكون الذي خلقه سبحانه ليستخلفنا فيه. ونحن لم نُضِفْ شيئاً لهذا الكون الذي خلقه الله؛ لأنك إنْ نظرتَ إلى كمية المياه أو الغذاء التي في الكون، وكُل مقومات الحياة لَمَا وجدتَ شيئاً يزيد أو ينقص؛ فالماء تشربه لِيرويِكَ، ثم يخرج عرقاً وبولاً؛ ومن بعد الموت يتحلّل الجسم ليتبخرَ منه الماء، وهذا يجري على كل الكائنات.
وحين يتناول الحق سبحانه في هذه الآية أَمْر الموت والحياة وعودة الكون في النهاية إلى مُنْشئِه سبحانه؛ فهو يُحدّثنا عن أمرين يعتوران حياة كل موجود؛ هما الحياة والموت، وكلاهما يجري على كُلِّ الكائنات؛ فكُلّ شيء له مدة يَحْياها، وأجل يقضيه.
وكل شيء يبدأ مهمة في الحياة فهو يُولّد؛ وكل شيء يُنهِي مهمته في الحياة بحسب ما قدره الله له فهو يموت؛ وإنْ كنا نحن البشر بحدود إدراكنا لا نعي ذلك.
وهو سبحانه القائل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88].
إذن: فكُلّ شيء يُطلَق عليه (شيء) مصيره إلى هلاك؛ ومعنى ذلك أنه كان حياً؛ ودليلنا على أنه كان حياً هو قول الحق: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...} [الأنفال: 42].
وهكذا نعلم أن كل ما له مهمة في الحياة له حياة تناسبه؛ وفَوْر أن تنتهي المهمة فهو يهلك ويموت، والحق سبحانه وتعالى يرث كل شيء بعد أن يهلك كل مَنْ له حياة، وهو سبحانه القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40].
وهو بذلك يرث التارك والمتروك؛ وهو الخالق لكل شيء. ويختلف ميراث الحق سبحانه عن ميراث الخَلْق؛ بأن المخلوق حين يرث آخر؛ فهو يُودِعه التراب أولاً، ثم يرث ما ترك؛ أما الحق سبحانه فهو يرث الاثنين معاً، المخلوق وما ترك.
ولذلك نحن نرى مَنْ يعز عليهم ميت؛ قد يُمسِكون بالخشبة التي تحمل الجثة، ويرفضون من فَرْط المحبة أن تخرج من منزله؛ ولو تركناه لهم لمدة أسبوع ورمّت الجثة؛ سيتوسّلون لِمَنْ يحمل الجثث أن يحملَه لِيُوارِيه التراب، ثم يبدأون في مناقشة ما يرثونه من الفقيد.
وهم بذلك يَرِثون المتروك بعد أن أودعوا التارك للتراب، وإذا كان التارك من الذين أحسنوا الإيمان والعمل فيدخل حياة جديدة هي أرغد بالتأكيد من حياته الدنيا؛ ولَسوفَ يأكل ويشرب دون أن يتعبَ، وكل ما تمر على ذهنه رغبة فهي تتحقّق له، فهو في ضيافة المُنعِم الأعلى.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين...}.


{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24)}
والمُستقدم هو مَنْ تقدّم بالحياة والموت؛ وهم مَنْ قبلنا من بشر وأُمَم. والمُسْتأخِر هو مَنْ سيأتي من بعدنا. وسبحانه يعلَمُنَا بحكم أنه علم من قَبْل كلّ مستأخر؛ أي: أنه عَلِم بنا من قبل أنْ نُوجد؛ ويعلم بنا من بَعْد أن نرحلَ؛ فعِلْمه كامل وأزليّ؛ وفائدة هذا العلم أنه سيترتب عليه الجزاء؛ فنحن حين أخذنا الحياة والرزق لم نُفلت بهما بعيداً؛ بل نجد الله قد عَلم أزلاً بما فعل كل مِنّا.
وهناك مَنْ يقول إن هناك معنًى آخر؛ بأن الحق سبحانه يكتب مَنْ يسرع إلى الصلاة ويتقدم إليها فَوْر أن يسمع النداء لها، ويعلم مَنْ يتأخر عن القيام بأداء الصلاة، ذلك أن تأثير كلمة (الله اكبر) فيها من اليقظة والانتباه ما يُذكّرنا بأن الله أكبر من كُلِّ ما يشغلك.
ونعلم أن من إعجازات الأذان أنه جعل النداء باسم (الله أكبر)؛ ولم يَقُلْ: الله كبير؛ وذلك احتراماً لما يشغلنا في الدنيا من موضوعات قد نراها كبيرة؛ ذلك أن الدنيا لا يجب أن تُهَان؛ لأنها المَعْبر إلى الجزاء القادم في الآخرة.
ولذلك أقول دائماً: إن الدنيا أهم من أن تُنسَى؛ وفي نفس الوقت هي أتفه من أنْ تكون غاية، فأنت في الدنيا تضرب في الأرض وتسعى لِقُوتِك وقُوتِ مَنْ تعول؛ وليُعينك هذا القوتُ على العبادة.
لذلك فلا يحتقر أحد الدنيا؛ بل ليشكر الله ويدعوه أنْ يوُفّقه فيها، وأن يبذلَ كل جَهْد في سبيل نجاحه في عمله؛ فالعمل الطيب ينال عليه العبدُ حُسْن الجزاء؛ وفَوْر أن يسمعَ المؤمن (الله أكبر)؛ فعليه أن يتجهَ إلى مَنْ هو أكبر فعلاً، وهو الحق سبحانه، وأن يؤدي الصلاة. هذا هو المعنى المُستقى من المستقدِم للصلاة والمُسْتأخِر عنها.
وهناك من العلماء مَنْ رأى ملاحظَ شتَّى في الآية الكريمة فمعناها قد يكون عاماً يشمل الزمن كله؛ وقد تكون بمعنى خاص كمعنى المستقدم للصلاة والمستأخِر عنها.
وقد يكون المعنى أشدَّ خصوصية من ذلك؛ فنحن حين نُصلّي نقف صفوفاً، ويقف الرجال أولاً؛ ثم الأطفال؛ ثم النساء؛ ومن الرجال مَنْ يتقدّم الصفوف كَيْلا تقع عيونه على امرأة؛ ومنهم مَنْ قد يتحايل ويقف في الصفوف الأخيرة ليرى النساء؛ فأوضح الحق سبحانه أن مثل هذه الأمور لا تفوت عليه، فهو العالم بالأسرار وأخفى منها.
أو: أن يكون المعنى هو المُستقدمين إلى الجهاد في سبيل الله أو المتأخرين عن الجهاد في سبيله. ومَنْ يموت حَتْف أنفه أي: على فراشه لا دَخْلَ له بهذه المسألة.
أما إنْ دعا داعي الجهاد، ويُقدِّم نفسه للحرب ويُقاتل وينال الشهادة، فالحق سبحانه وتعالى يعلم مَنْ تقدّم إلى لقائه محبةً وجهاداً لِرفعة شأن الدين.
وقد يكون في ظاهر الأمر وفي عيون غيره مِمَّنْ يكرهون الحياة؛ ولكنه في حقيقة الأمر مُحِبّ للحياة بأكثر مِمَّنْ يدّعون حُبّها؛ لأنه امتلك اليقين الإيماني بأن خالقَ الدنيا يستحق أن ينالَ الجهاد في سبيل القِيم التي أرادها منهاجاً ينعدل به ميزان الكون؛ وإن استشهد فقد وعده سبحانه الخُلْد في الجنة ونعيمها.
ونجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لي يا رسول الله أن أستشهد؛ فيردّ عليه النبي الكريم: (متعنا بنفسك يا أبا بكر).
وعلى ذلك لا يكون المستأخر هنا محلَّ لَوْم؛ لأن الإيمان يحتاج لِمَنْ يصونه ويُثبّته؛ كما يحتاج إلى مَنْ يؤكد أن الإيمان بالله أعزُّ من الحياة نفسها؛ وهو المُتقدّم للقتال، وينال الشهادةَ في سبيل الله.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ...}.


{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)}
أي: أن المُتولّي تربيتك يا محمد لن يترك مَنْ خاصموك وعاندوك، وأهانوك وآذوْكَ دون عقاب.
وكلمة: {يَحْشُرُهُمْ} [الحجر: 25].
تكفي كدليل على أن الله يقفُ لهم بالمرصاد، فهم قد أنكروا البعث؛ ولم يجرؤ أحدهم أن يُنكِر الموت، وإذا كان الحق سبحانه قد سبق وعبَّر عن البعث بقوله الحق: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15-16]

فهم كانوا قد غفلوا عن الإعداد لِمَا بعد الموت، وكأنهم يشكُّون في أنه قادم، وجاء لهم بخبر الموت كأمر حتميّ، وسبقتْه(هو) لتؤكد أنه سوف يحدث، فالحشر منسوب لله سبحانه، وهو قادر عليه، كما قدر على الإحياء من عدم، فلا وَجْهَ للشك أو الإنكار.
ثم جاء لهم بخبر البعث الذي يشكُّون فيه؛ وهو أمر سبق وأنْ ساق عليه سبحانه الأدلة الواضحة.
ولذلك جاء بالخبر المصحوب بضمير الفصل: {يَحْشُرُهُمْ...} [الحجر: 25].
وسبحانه يُجرِي الأمور كلها بحكمة واقتدار، فهو العليم بما تتطلبه الحكمة عِلْماً يحيط بكل الزوايا والجهات.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان...}.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11